فصل: مناسبة الآيتين لما قبلهما:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِالْعَدُوِّ، وَالسِّيَادَةِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْعِزَّةِ، وَحُسْنِ الْأُحْدُوثَةِ وَشَرَفِ الذِّكْرِ وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ بِنَيْلِ رِضْوَانِ اللهِ وَقُرْبِهِ، وَالنَّعِيمِ بِدَارِ كَرَامَتِهِ، وَهُوَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ- كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ- أَخْذًا مِنْ قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [32: 17] وَمَا آتَاهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِحُسْنِ إِرَادَتِهِمْ، وَمَا كَانَ لَهَا مِنْ حُسْنِ الْأَثَرِ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، إِذَا أَتَوُا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَلَبَّوُا الْمَقَاصِدَ بِأَسْبَابِهَا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ فِي الْأَرْضِ يُقِيمُونَ سُنَّتَهُ، وَيُظْهِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ حِكْمَتَهُ، فَيَكُونُ عَمَلُهُمْ لِلَّهِ بِاللهِ كَمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ الْعَبْدِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا» أَيْ إِنَّ مَشَاعِرَهُ وَأَعْمَالَهُ لَا تَكُونُ مَشْغُولَةً إِلَّا بِمَا يُرْضِي اللهَ وَيُقِيمُ سُنَنَهُ وَيُظْهِرُ حِكَمَهُ فِي خَلْقِهِ.
وَإِنَّمَا جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَحُسْنِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِعَمَلِهِمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا الْجَزَاءُ عَلَى حُسْنِ الْإِرَادَةِ، وَهَذَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا (ص138) وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَىُ الْغَالِينَ فِي الزُّهْدِ، وَخَصَّ ثَوَابَ الْآخِرَةِ بِالْحُسْنِ لِلْإِيذَانِ بِفَضْلِهِ وَمَزِيَّتِهِ وَأَنَّهُ الْمُعْتَدُّ بِهِ عِنْدَ اللهِ تعالى، كَذَا قَالُوا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ثَوَابُ هَؤُلَاءِ حَسَنٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَكِنْ ذِكْرُ الْحُسْنِ فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ مَزِيدٌ فِي تَعْظِيمِ أَمْرِهِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أنه ثَوَابٌ لَا يَشُوبُهُ أَذًى،؟ فَلَيْسَ مِثْلَ ثَوَابِ الدُّنْيَا عُرْضَةً لِلشَّوَائِبِ وَالْمُنَغِّصَاتِ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى مَا أَثْبَتَتْهُ الْآيَةُ بِمِثْلِ وَقْعَتَيِ الرَّجِيعِ وَبِئْرِ مَعُونَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَنْ قُتِلُوا هُنَالِكَ لَمْ يُؤْتَوْا ثَوَابَ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ إِيثَارَ ثَوَابِ الدُّنْيَا مَشْرُوطٌ بِاتِّبَاعِ السُّنَنِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَفِي وَقْعَةِ الرَّجِيعِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي النُّزُولِ عَلَى حُكْمِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ تَقْصِيرًا مِنْهُمْ، وَفِي وَقْعَةِ بِئْرِ مَعُونَةَ قَدْ قَصَّرُوا فِي الِاحْتِيَاطِ إِذْ أَمِنُوا لِمَنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْمَنَ لَهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ جَزَاءَ التَّقْصِيرِ وَمَوْعِظَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَكُونُوا دَائِمًا حَذِرِينَ مُحْتَاطِينَ غَيْرَ مُقَصِّرِينَ وَلَا مُسْرِفِينَ.
وَقَدْ صُرِّحَ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ كَوْنِ الْآيَاتِ تَأْدِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَوْبِيخًا لِمَنْ فَرَّطَ مِنْهُمْ مَا فَرَّطَ، وَالأمر ظَاهِرٌ كَالشَّمْسِ فِي الضُّحَى أَوْ أَشَدُّ ظُهُورًا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}.
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ الْمُنَافِقِينَ- الَّذِينَ وَبَّخَهُمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنِ انْهَزَمُوا وَقَالُوا مَا قَالُوا- إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِمَنْ سَمِعَ قَوْلَ أُولَئِكَ الْقَائِلِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: ارْجِعُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ وَدِينِكُمْ وَهُوَ أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ، وَالْمُخْتَارُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي جَرَيْنَا عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا عَامٌّ وُجِّهَ إِلَى كُلِّ مَنْ شَهِدَ أُحُدًا لِتَكَافُلِهِمْ، وَكُلٌّ يَعْتَبِرُ بِهَا بِحَسَبِ حَالِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْآتِيَةُ بَعْدَهَا، فَإِنَّهَا مِنْ تَتِمَّةِ الْخِطَابِ وَفِيهَا تَفْصِيلٌ لِأَعْمَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ وَعِنَايَةِ اللهِ بِهِمْ، مَعَ تَقْسِيمِهِمْ إِلَى مُرِيدٍ لِلدُّنْيَا وَمُرِيدٍ لِلْآخِرَةِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا. اهـ.

.من فوائد الشعراوي:

قال رحمه الله:
{فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
أي أن الذي يريد الدنيا فالله يعطيه من الدنيا غنائم وأشياء، ولنا أن نلحظ أن الحق عندما يتكلم هنا عن الدنيا فهو لم يصفها بحُسن أو بشيء، فقط قال: {ثَوَابَ الدُّنْيَا}، لكن عندما تكلم عن الآخرة فهو يقول: {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} وهذا هو الجمال الذي يجب أن يُعشق؛ لأن الدنيا مهما طالت فهي متاع وغرور وزخرف زائل، ومهما كنت منعمًا فيها فأنت تنتظر حاجة من اثنتين: إما أن تزول عنك النعمة، وإما أن تزول أنت عن النعمة.
ويختم الحق الآية بقوله: {وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقد أحسنوا حين ناجوا ربهم بعدما أصابهم. إنهم سألوا المغفرة، وسألوا أن يغفر لهم إسرافهم في أمرهم، وأن يثبت أقدامهم وأن ينصرهم على القوم الكافرين؛ لأنهم رأوا أن قوتهم البشرية حين يتخلى عنهم مدد الله تصبح هباءً لا وزن لها.
{فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ومثلما قلنا في الصبر: {وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} كفى بالجزاء على الصبر أن تكون محبوبًا لله، كذلك كفى بالجزاء على الإحسان أن تكون محبوبا لله. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}.
أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد من طريق أبي عبيدة عن ابن مسعود أنه قرأ {وكأين من نبي قاتل معه ربيون} ويقول ألا ترى أنه يقول: {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله}.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذرعن سعيد بن جبير أنه كان يقول: ما سمعنا قط أن نبيًا قتل في القتال.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن الحسن وإبراهيم، أنهما كانا يقرآن {قاتل معه}.
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه قرأ {وكأين من نبي قتل معه ربيون} بغير ألف.
وأخرج عن عطية. مثله.
وأخرج من طريق زر عن ابن مسعود مثله. أنه كان يقرأها بغير ألف.
وأخرج عبد بن حميد عن عطية أنه قرأ {وكأيِّن من نبي قتل معه ربيون} بغير ألف.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله: {ربيون} قال: ألوف.
وأخرج سعيد بن منصور عن الضحاك في قوله: {ربيون} قال: الربة الواحدة ألف.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر من طريق علي عن ابن عباس {ربيون} يقول: جموع.
وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن في قوله: {ربيون} قال: فقهاء علماء قال: وقال ابن عباس: هي الجموع الكثيرة.
وأخرج ابن الأنباري في الوقف والابتداء والطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله: {ربيون} قال: جموع قال: وهل يعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت قول حسان:
وإذا معشر تجافوا القص ** د أملنا عليهم ربيّا

وأخرج ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {ربيون كثيرٌ} قال: علماء كثير.
وأخرج من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {ربيون كثير} قال: {الربيون} هم الجموع الكثيرة.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن {ربيون} قال: علماء كثير.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: {الربيون} الأتباع، والربانيون الولاة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وكأين من نبي قاتل} الآية. قال: هم قوم قتل نبيهم، فلم يضعفوا ولم يستكينوا لقتل نبيهم.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله} لقتل أنبيائهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله} يعني فما عجزوا عن عدوهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر عن قتادة في قوله: {فما وهنوا} الآية. يقول: فما عجزوا وما تضعضعوا لقتل نبيهم {وما استكانوا} يقول ما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم، إن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وما استكانوا} قال: {ما استكانوا} قال: تخشعوا.
وأخرج ابن جرير عن السدي {وما استكانوا} يقول: ما ذلوا.
وأخرج عن ابن زيد {وما استكانوا} قال: ما استكانوا لعدوهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عن ابن عباس في قوله: {وإسرافنا في أمرنا} قال: خطايانا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وإسرافنا في أمرنا} قال: خطايانا وظلمنا أنفسنا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {وإسرافنا في أمرنا} يعني الخطايا الكبار.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {فآتاهم الله ثواب الدنيا} قال: النصر والغنيمة {وحسن ثواب الآخرة} قال: رضوان الله ورحمته.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة {فآتاهم الله ثواب الدنيا} الفلاح، والظهور، والتمكن، والنصر على عدوهم في الدنيا {وحسن ثواب الأخرة} هي الجنة. اهـ.

.تفسير الآيات (149- 150):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ الله مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)}

.مناسبة الآيتين لما قبلهما:

.قال البقاعي:

ولما أمر سبحانه وتعالى بطاعته الموجبة للنصر والأجر وختم بمحبته للمحسنين، حذر من طاعة الكافرين المقتضية للخذلان رغبة في موالاتهم ومنا صرتهم فقال تعالى واصلًا بالنداء في آية الربا: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان {إن تطيعوا} بخضوع واستئمان أو غيره {الذين كفروا} أي هذا الفريق منهم أو غيره {يردوكم على أعاقبكم} بتعكيس أحوالكم إلى أن تصيروا مثلهم ظالمين كافرين {فتنقلبوا خاسرين} في جميع أموركم في الدارين، فتكونوا في غاية البعد من أحوال المحسنين، فتكونوا بمحل السخط من الله صغرة تحت أيدي الأعداء في الدنيا خالدين في العذاب في الأخرى، وذلك ناظر إلى قوله تعالى أول ما حذر من مكر الكفار: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب} [آل عمران: 100]، وموضح أن جميع هذه الآيات شديد اتصال بعضها ببعض- والله الموفق.
ولما كان التقدير: فلا تطيعوهم، إنهم ليسوا صالحين للولاية مطلقًا ما دمتم مؤمنين، عطف عليه قوله: {بل الله} أي الملك الأعظم {مولاكم} مخبرًا بأنه ناصرهم وأن نصره لا يساويه نصر أحد سواه بقوله: {وهو خير الناصرين} أي لأن من نصره سبب له جميع أسباب النصر وأزال عنه كل أسباب الخذلان فمنع غيره- كائنًا من كان- من إذلاله. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن هذه الآية من تمام الكلام الأول، وذلك لأن الكفار لما أرجفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، ودعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر، منع الله المسلمين بهذه الآية عن الالتفات إلى كلام أولئك المنافقين.
فقال: {يا أيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قيل: {إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} المراد أبو سفيان، فإنه كان كبير القوم في ذلك اليوم، قال السدي: المراد أبو سفيأن لانه كان شجرة الفتن، وقال آخرون: المراد عبدالله بن أبي وأتباعه من المنافقين، وهم الذين ألقوا الشبهات في قلوب الضعفة وقالوا لو كان محمد رسول الله ما وقعت له هذه الواقعة، وإنما هو رجل كسائر الناس، يوما له ويوما عليه، فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم فيه، وقال آخرون: المراد اليهود لأنه كان بالمدينة قوم من اليهود، وكانوا يلقون الشبهة في قلوب المسلمين، ولاسيما عند وقوع هذه الواقعة، والأقرب أنه يتناول كل الكفار، لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع من عموم اللفظ. اهـ.
وقال الفخر:
قوله: {إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} لا يمكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه بل لابد من التخصيص فقيل: إن تطيعوهم فيما أمروكم به يوم أحد من ترك الإسلام، وقيل: إن تطيعوهم في كل ما يأمرونكم من الضلال، وقيل في المشورة، وقيل في ترك المحاربة وهو قولهم: {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} [آل عمران: 156].
ثم قال: {يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم} يعني يردوكم إلى الكفر بعد الإيمان، لأن قبول قولهم في الدعوة إلى الكفر كفر.
ثم قال: {فَتَنقَلِبُواْ خاسرين}.
واعلم أن اللفظ لما كان عاما وجب أن يدخل فيه خسران الدنيا والآخرة، أما خسران الدنيا فلأن أشق الأشياء على العقلاء في الدنيا الانقياد للعدو والتذلل له وإظهار الحاجة اليه، وأما خسران الآخرة فالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد. اهـ.

.قال أبو حيان:

{يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين} الخطاب عامّ يتناول أهل أحد وغيرهم.
وما زال الكفار مثابرين على رجوع المؤمنين عن دينهم، ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء.
وودُّوا لو تكفرون، لن تنفعكم {ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردُّونكم من بعد إيمانكم كفارًا} {ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم} وقيل: الخطاب خاص بمن كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين يوم أحد.
فعلى الأول علق على مطلق طاعتهم الرد على العقب والانقلاب بالخسران وهذا غاية في التحرز منهم والمجانبة لهم، فلا يطاعون في شيء ولا يشاورون، لأن ذلك يستجر إلى موافقتهم، ويكون الذين كفروا عامًا.
وعلى القول الثاني: يكون الذين كفروا خاصًا.
فقال عليّ وابن عباس: هم المنافقون قالوا للمؤمنين لما رجعوا من أحد: لو كان نبيًا ما أصابه الذي أصابه فارجعوا إلى إخوانكم.
وقال ابن جريج: هم اليهود والنصارى وقاله: الحسن.
وعنه: إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم لأنهم كانوا يستغوونهم، ويوقعون لهم الشبه، ويقولون: لو كان لكم نبيًا حقًا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس، يومًا له ويومًا عليه.
وقال السدي: هم أبو سفيان وأصحابه من عباد الأوثان.
وقال الحسن أيضا: هو كعب وأصحابه.
وقال أبو بكر الرّازي: فيها دلالة على النهي عن طاعة الكفار مطلقًا، لكن أجمع المسلمون على أنه لا يندرج تحته من وثقنا بنصحه منهم، كالجاسوس والخرّيت الذي يهدي إلى الطريق، وصاحب الرأي ذي المصلحة الظاهرة، والزوجة تشير بصواب. اهـ.